الهجن
ناقة البسوس
ناقة أشعلت فتيل حرب احتدمت نيرانها مدة أربعين عاما، كانت أكبر وأطول الحروب العربية وأقساها، شهدت وقائع مهولة ومريعة. وقعت هذه الحرب بين قبيلة تغلب بن وائل وأحلافها ضد بني شيبان وأحلافها من قبيلة بكر بن وائل وهما أولاد عمومة.
أما الناقة فتعود ملكيتها لامرأة تدعى البسوس، نزلت بقبيلة بكر عند ابن أختها جساس بن مرة الشيباني، وكانت ناقتها خوّارة ) كثيرة اللبن سهلة
الحلب ( لها فصيل صغير، تطلقها البسوس في كل يوم لترعى مع فصيلها.
أما قبيلة تغلب فكانت تحت حكم وائل بن ربيعة التغلبي الملقب بكُليب، كان كُليب ملكا وحاكما، بلغ سلطانه هذا بعد أن اجتمع عليه اليمن في خزازى وهزمهم، وقتل ملكهم المعروف بقوته، وبعد مرور الوقت دخل الزهو والغرور عقل كُليب وتجبّر وبدأ بطغيانه وتسلطه؛ لما شهده من عزة وانقياد لملكه، فكان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالا له، ولا يغير أحد في مجلسه إلا بإذنه، ولا تورد إبل أحد، ولا توقد مع ناره، ولم يكن بكري أو تغلبي يجير رج ا أو بعيرا بحماه إلا بأمر من كليب.
كليب كان متزوجا من إمرأة تدعى جليلة بنت مرة وهي ابنة عمه وأخت جساس، وحدث أن كليبا دخل ذات يوم على إمرأته جليلة سائلا إياها: هل تعلمين على الأرض أمنع مني ذمة؟ فسكتت، ثم أعادها ثانية وثالثة حتى أجابته قائلة: نعم، أخي الجساس وهو فارس شهم أبيّ، يلقب بحامي الجار والمانع الذمار؛ فأضمرها كليب في نفسه وأسرها. ثم حصل وأن كان يشرف على مرعاه، ومرت ناقة البسوس بحماه فأنكرها، وقال: ما هذه الناقة؟ فأتاه الجواب بأنها لخالة الجساس، فأجاب: أوبلغ من أمر ابن السعدية )أي الجساس( أن يجير بغير أذني؟ ارم ضرعها يا غ ام، فأخذ القوس ورمى الناقة واختلط دمها بلبنها، وولت الناقة ولها عجيج حتى بركت بفناء البسوس وماتت، وبقي فصيلها، فلما رأتها البسوس على هذا الحال صاحت: واذلاه!، وأمرها الجساس بالسكوت، ووعدها بناقة أعظم منها، فأبت أن ترضى حتى صاروا لها عشر، ولما حل الليل عليها رفعت صوتها
لعمري لو أصبحت في دار منقذ
لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي
لكنني أصبحت في دار غربة
متى يعدُ فيها الذئب يعدو على شاتي
فيا سعد لا تغر بنفسك وارتحل
فإنك في قوم عن الجار أموات
ودونك أذوادي فخذها وإنني
راحلة فلا تغدروا ببنياتي
ولما سمع الجساس بن مرة قولها غضب، ولحق به عمرو بن الحارث الشيباني حتى دخلا على كليب في حماه، فقال جساس لكليب: « أيا أبا الماجدة، عمدتَ إلى
ناقة جارتي فعقرتها » فقال له كليب: « أتراك مانعي أن أذب عن حماي؟ » فغضب جساسُ فضرب كليب وقطم صلبه، ثم جاء عمرو على وقع كليب « أغثني بشربة من ماء ». فقال له جساس: هيهات، « تجاوزت شبيثا والأحص »، أي قد فاتك الانتفاع بالماء، ويقال أن كليبا خط اسم الجساس بدمه على صخرة حتى يُعرف قاتله ويأخذ بثأره، ومن أولى بهذا الثأر من المهلهل بن ربيعة الملقب بالزير سالم؛ كان المهلهل سكيرا لا يفارق الخمر ولا النساء، وبعد أن علم بمقتل كليب بكاه وندبه ورثاه بأشعار، وأقسم أن لا يذوق الخمر حتى ينال بثأر أخيه، فشمر عن ذراعيه، وجمع أطراف قومه، ثم جز شعره وقص ثوبه، وآلى على نفسه ألا يلهو بلهو ولا يشم طيبا، ولا يشرب خمرا، ولا يدّهن بدهن حتى يقتل بكل عضو من كليب رج ا من بني بكر بن وائل، وحث بنى تغلب على الأخذ بالثأر، فأرسلوا رجالا إلى مرة بن ذهل الشيباني والد جساس فقالوا له: إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا بناب من الإبل، فقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا كرهنا العجلة عليكم دون الإعذار إليكم. ونحن نعرض عليكم خلالا أربع لكم فيها مخرج، ولنا مقنع فقال: « وما هي؟ » فقالوا: « تحي لنا كليبا، أو تدفع إلينا جساسا قاتله فنقتله به، أو هماما ( أخ جساس ) فإنه كفء له، أو تمكننا من نفسك فإن فيك وفاء مندمه » فقال لهم: « أما إحيائي كليبا فهذا ما لا يكون، وأما جساسُ فإنه غ ام طعن طعنة على عجل، ثم ركب فرسه ف ا أدري أي الب اد احتوى عليه، وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم، فلن يسلموه لي فأدفعه إليكم يقتل بجريرة غيره، وأما أنا فهل هو إلا أن تجول الخيل جولة غدا فأكون أول قتيل بينها، فما أتعجل من الموت، ولكن لكم عندي خصلتان: أما إحداهما، فهؤلاء بنيَّ الباقون فعلقوا في عنق أيهم شئتم نسعة فانطلقوا به إلى رحالكم فأذبحوه ذبح الجزور، وإلا فألف ناقة سوداء المقل أقيم لكم بها كفيلا من بني وائل » فغضبوا منه وقالوا: « لقد أسأت، ترذل لنا ولدك وتسومنا اللبن من دم كليب ». فلحقت الجليلة بنت مرة الشيبانية بأهلها، ودعت تغلب قبائل النمر بن قاسط، وغفيلة بن قاسط فانضموا لها، وأما بنو شيبان فاعتزلت عنهم قبائل بكر بن وائل وكرهوا مساعدتهم، وأعظموا قتل جساس كليبا بناقة فارتحلت عنهم بنو عجل، وكفت عن نصرتهم بنو يشكر، وبدأت الحرب وكانت الصولاتوالجولات ودامت لمدة أربعين عاما، خلد فيها المهلهل وذاع صيته.
- جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإس ام، ج 1،
ص 6032 .